top of page

مسلسل "صلة رحم" ( ٢٠٢٤)

مع انتهاء النصف الأول من شهر رمضان، يعتبر مسلسل "صلة رحم" من أكثر المسلسلات تميزاً من حيث الفكرة والحبكة الدرامية التي تناولها، وصراعه بين الدين والعلم والأعراف الاجتماعية والصراع بين العقل والضمير، فتلك المنطقة لم تدخلها الدراما المصرية كثيراً، بل ظلت محصورة في صراعها الدائم بين الخير المطلق والشر المطلق وقضايا الأسرة وتقسيم الميراث.



فلا يمكن انكار حالة الابداع الواضحة من الحلقة الأولى في معظم عناصر العمل والتي بدأت من البوستر، حيث نجد أن بوستر المسلسل به اختلاف في اختيار شكل الكتابة حيث كلمة صلة يشبه حرف الصاد فيه بطن امرأة حامل بانتفاخها بالجنين .. ثم رسمة كلمة "رحم" وحرف الحاء في هيئته وكأنه استدعاء تشريحي لشكل الرحم نفسه وتجويفه منتهيا بحرف الميم وانحنائه كما هي قناة فالوب وتشكيل فني بديع يحاكي الرحم ذاته حين ندقق في التشكيل، بينما تشكل بطلتي العمل "اسماء ابو اليزيد" و"يسرا اللوزي" المبيضان للرحم .. اليمين واليسار .. يستقر بينهما البطل الرئيسي ليكمل التشكيل.

وفي الأسفل ممر لمستشفى يسير فيها البطل طبيب التخدير "اياد نصار/حسام" في ظلمة وكأنه حيوان منوي يسير في قناة الرحم وظلمته إلى وجهته نحو المبيضين للقاء البويضة لتكوين الجنين .. وهنا تكوين الدراما .. لخصها البوستر بجمال وتصميم ذكي وبسيط.


نذهب إلى موسيقى المسلسل التي ابدعها الموسيقار "اشرف الزفتاوي" وهو واحد من اهم ابناء جيله الذي يصنع موسيقاه مشهداً بمشهد وحلقة بحلقة دون استسهال ونحت وتكرار .. ففي كل مشهد يختار آلاته بعناية تشبه ابطال المشهد .. ففي المشاهد الحزينة والمؤثرة تخلقها موسيقى الكمانجات السكوندو والبريمو في تناغم بين الشخصية الرئيسية والشخصية المساعدة .. يظهر في المشاهد المتوترة والتصادمية الكونترباص بغلظته مع التشيلو ثم في مشاهد الخوف والضرب والحوادث يؤكد بلغة الموسيقى التوتر ويزيده احساساً لدى المشاهد مما يضعنا في بعد ثلاثي مع الأبطال، وكأن الموسيقى هنا لا تكتفي كونها عامل مساعد كما يعتقد البعض لتحولها إلى حياة لو اختفت لماتت الحكاية بموتها.


الحوار في المسلسل محسوب بمهارة .. حيث كل عالم له لغته .. فعالم الكوافيرات له جوه من اللغة والملابس والاضاءة والحركة .. عالم الأطباء له طبيعته ولغته وديكوره .. كذلك شهد الحوار جمل وعبارات رنانة وكان على قدر كبير من الرقي، كل ممثل بطل في دوره بطولة مطلقة بتفرد وامتياز.. حتى الشوارع لم يغفل المسلسل ان يجعلها تتنفس وتنطق بالواقعية.

و لكن أقوى العناصر على الاطلاق كان المكياج، فلم أرى مكياج منطقي متقن لمصابين في حادثة سيارة من زمن في الدراما المصرية بقدر ما اتقنه فريق مكياج مسلسل صلة رحم.

كذلك كانت الاضاءة من أجود عناصر المسلسل بعد كمية المسلسلات التي تحمل شعاراً "أعتم دراما في العالم هي المصرية".


تميز المسلسل ايضاً في شيء اختلف به عن كل المسلسلات المعروضة في الفترة الأخيرة، وهو ابتعاده عن الشخصيات النمطية، فالفتاة الشعبية حنان لا تضطر للحديث بصوت أجش أو لوي شفاهها كي تظهر انها شعبية، ولكن كانت فتاة فقيرة بسيطة مظهرها جيد رغم بساطته لا تُفرق بينها وبين الفتاة العادية أو المتعلمة، واكتفى الكاتب باظهار مستواها التعلمي المتواضع من خلال مشهد واحد، حين اختلط عليها الأمر بين حرفي السين والصاد في اسم رستم اثناء مليء الاستمارة.

كما كانت شخصية المحامية التي جسدتها ريم حجاب، والتي كانت نسخة مطابقة تماماً لمحاميات قضايا الأسرة في طريقة حديثها من حيث اعتزازها بالمهنة ونص مواد القانون في الاجابة عن كل سؤال، وتمسكها بالمباديء المهنية، فكانت شخصية حقاً ممتازة من حيث الكتابة والأداء، كذلك شخصية الزوج فرج الذي مازال يحتفظ بعرقه الصعيدي رغم اقامته في القاهرة منذ سنوات.

كذلك باقي الشخصيات التي تحمل في داخلها الخير والشر معاً، فالناس ليست أبيض أو أسود فقط، بل الجميع رماديون لهم وعليهم، أخيراً كان الأداء متميزاً بحق من اياد نصار الذي يجيد أداء الشخصيات المعقدة و المركبة وكذلك اسماء ابو اليزيد وهي نجمة واعدة بادائها البسيط والسهل، وهبة عبد الغني المتألقة دائماً ومحمد جمعة وصفاء جلال وجميع الوجوه الصاعدة، باستثناء يسرا اللوزي التي كان أدائها بارد لأبعد الحدود، فمثلاً بلحظة درامية مفجعة ومؤثرة دمرتها يسرا اللوزي تماماً ببرودها رغم اجتهادها للخروج بالمشهد في افضل صورة.


منذ فترة طويلة لم تقدم الدراما المصرية مسلسل به هذا القدر من الصراعات النفسية بداخل البشر، حيث كُتبت شخصيات المسلسل بشكل بارع، ورسمها الكاتب محمد هشام عبية باحترافية شديدة جعلت أكثر ما يميز النص هو شخصياته المختلفة والتي يحمل كلاً منهم بداخله صراع ما، حيث الجميع يبرر أخطاؤه ويتعايش بسلام نفسي مع كل خطاياه، ويبحثون لأنفسهم عن بقعة ضوء ليرتاح ضميرهم، مثل البطل الذي قام بتأجير رحم لأنه يريد تعويض زوجته التي اصبحت عقيمة للأبد بسبب خيانته لها، والطبيب الآخر الذي يبرر عمليات الاجهاض ويعتبرها عمل أخلاقي لانه ينقذ سمعة فتاة قبل ان يحاكمها المجتمع، والممرضة التي تتخذ من الفقر حجة وذريعة لما تفعله من المساعدة في عمليات الاجهاض واستغلال ظروف الناس الصعبة في اعمال التبرع وغيره.


في الحقيقة يبدو أن الكاتب محمد هشام عبية لم يكن متفرغاً لشيء سوى الحوار وكتابة الشخصيات والاهتمام بتفاصيل كل شخصية وصراعها النفسي وتاريخها وماضيها، لدرجة انه اغفل الحديث في قضية المسلسل نفسها و مناقشة وتوضيح أركان القضية علمياً ودينياً بشكل يعطي المشاهد اجابات وافية عن تساؤلاته.

فالقضية الشائكة التي عرضها المسلسل حتى يتم تمريرها درامياً كان ينبغى تقديم هذا المشهد المباشر في دلالته، حوار بين إياد نصار والشيخ خالد الجندى وحديث عن تأجير الأرحام، وفى النهاية أكد الشيخ خالد أنه محرم شرعاً، ورد عليه إياد بأن أطفال الأنابيب في الماضى أيضا كانوا محرمين، قبل أن يباح ذلك وأضاف (الضرورات تبيح المحظورات)، بينما الشيخ خالد ظل معبراً عن رأى المؤسسة الدينية بأنه حرام.

و لكن لم يكن رد الشيخ خالد الجندي كافياً لقطع الشك باليقين وانهاء الجدل حول المسألة، وكأن الكاتب تعمد اخفاء المعلومة الدينية الأساسية التي تحتم منع تأجير الأرحام وهي حرمانية تواجد حيوان منوي من رجل في رحم امرأة لا تحل له، وإذا تزوج الرجل من المرأة لابطال العلة وانتفاء الحرمانية، فهو حرام لأن الطفل الذي يولد من رحم أم ويعيش مع الأم صاحبة البويضة سيشعر بتشتت نفسي رهيب ما يصيبه بحالة نفسية سيئة أو مرض ما.

كما ستعاني الأم الحاضنة من خلل نفسي رهيب بعد الولادة بسبب انفصالها عن الطفل الذي يعتبر ابنها بالدم والغذاء، فهي كأم لها حق في الطفل وكذلك الأم صاحبة البويضة، ولعدم القدرة على تحديد أيهما أم الطفل، فهذا يؤدي في النهاية إلى خلط أنساب.


فكان لابد من الحديث بشكل أكثر وضوحاً ومصداقية في القضية عن طريق مناظرة بين طبيب ورجل دين وبالطبع ليكون في حيز قانوني كان لابد للخروج بالأحداث من مصر، و كأن الزوجين يعيشان في دولة بالخارج، مسموح فيها بتأجير الارحام وأن يكون قضية جدلية للزوج الذي ينادي يتقنينه في كل دول العالم وليس بعضها فقط، كذلك كان لابد وحتماً من تجسيد معاناة الأم الحاضنة اثناء الحمل لتعزيز فكرة أنها الأحق بالطفل، بدلاً من تمرير أشهر الحمل بعبارة "بعد مرور ستة اشهر"، كذلك كان من المفترض تسليط الضوء على فترة ما بعد الولادة واظهار تمسك الأم الحاضنة بالطفل ونزاعها عليه من الأم صاحبة البويضة.

أو القاء القبض على من شارك في هذه الجريمة ومحاكمته وتناول الدفاع والنيابة لكل عناصر القضية من حيث المنظور الطبي والديني والاجتماعي والانساني، ومن هنا نفتح النقاش حول تأجير الأرحام، وهل ما فعلوه هو حق أم باطل؟ وما الحل للذين تحرمهم الأقدار من الأبناء، ولا يجدوا سبيلا غير تلك العملية التي أصبحت متاحة بفضل التقدم العلمي، فلم يتطرق المسلسل مثلاً لعملية زرع الرحم التي تم اجرائها في أكثر من دولة بالخارج وحقق بعضها نجاح كبير.. أعتقد أن المسلسل بذلك كان سيكتسب أهمية كبرى، وكان سيصبح مرجعاً طبياً وعلمياً.


و لكن خوفاً من رد فعل الجمهور وهجوم النقاد لجأ الكاتب في النهاية إلى عقاب البطل وتزوير حتى اسم المُنجِبة، ليصبح الجنين يحمل اسم يسرا اللوزى وهى جريمة تنضم إلى عشرات ارتكبها، اختيار كحل هروب من الإجابة عن الأسئلة، وجدته شخصياً اضعف الحلول الدرامية.

شعرنا أن النهاية منفصلة عن مسار الأحداث و كأن الحلقة الأخيرة حلقة من مسلسل آخر، وللأسف كانت النهاية محبطة و مخيبة للآمال، والتي فوتت وأهدرت فرصة عظيمة لمناقشة القضية والإشكالية التي طرحها المسلسل بلا ثمن.

على مستوى رتم الأحداث فكان المسلسل يعاني من بطء شديد في الحبكة وتأخر في السرد، فحتى الحلقة التاسعة لم تتم عملية التأجير و زرع الجنين في رحم الأم الحاضنة، ثم حشو زائد و مط بدون داعي حتى الحلقة الثالثة عشر التي شهدت قفزة غريبة في الأحداث و تغيير مواقف الابطال فجأة، واتخاذ قرارات بدون أي مبرر درامي، فضاعت الحبكة بين الحشو والمط تارة والتسرع في الأحداث تارة، هذا فضلاَ عن الترويج الواضح لعمليات تأجير الأرحام وعمليات الاجهاض والمناداة رسمياً بتقنين تلك العمليات والحق في اجهاض آمن للنساء، وتغيير موقف البطل تماماً من تلك العمليات لدرجة اقناعه لزميلة باجراء عملية لاحداهن.


ورغم عيوب المسلسل، يشفع له تميز جودة الفكرة وإن لم يعرف كاتبها كيف يصوغها، مع براعة التصوير والديكور وعمق الحوار ما يجعل من (صلة رحم)، سيظل هو المسلسل الاستثناء في دراما النصف الأول من رمضان، فيكفيه جرأة في الاقتراب من فتيل مشتعل، ولا يزال مشتعلا!!


تقييم الناقدة ★★★


٣٤ مشاهدة٠ تعليق

Comments


bottom of page