top of page

مسلسل جعفر العمدة (٢٠٢٣)

النمطية الشديدة سر النجاح الساحق.


لا يطبق الناقد -أو من المفترض أنه لا يفعل ذلك- معاييره النظرية فقط، بعيداً عن ردود فعل الناس، وتوجههم الذي نلاحظه في عشرات من التفاصيل، أهمها توجه المؤشر.

لديكم مثلاً مسلسل (جعفر العمدة) الذي يحقق أكبر قدر من الجماهيرية الطاغية في الشارع المصري والعربي، قطعاً لو استسلمت فقط للمعايير النقدية، لاكتشفت كثيراً من الأخطاء التي تتناقض مع قواعد الدراما، ومبادئ القانون، ومنطق المنطق.


إن الإخفاق الواضح في مسلسلي موسى والمشوار دفع رمضان للعودة إلى ملعبه وبرفقة شريكه المفضل المخرج محمد سامي ليقدما خلطة شعبية "حريفة" لجمهور التليفزيون الباحث عن عمل مسلي، يقدم صورة رجل أسطوري بمعايير ذكورية على هوى الشارع المصري، ثري قوي وصاحب نفوذ، متزوج من أربعة نساء، يفقد ابنه الرضيع ليبدأ رحلة البحث وملحمة الإنتقام ممن حرموه منه.

توابل درامية مصرية مخلوطة بحبكة جيدة ومتقنة الصنع، في تسلسل الأحداث، والأهم نهايات الحلقات المحكمة بدقة تجعل المشاهد ينتظر بداية الحلقة التالية.



يُشكل الفنان محمد رمضان والمخرج محمد سامي ثنائياً فنياً مثيراً للجدل، ويبدو من أعمالهما المشتركة أنهما لا يباليان بالانتقادات والهجوم المرتقب سنوياً، ولا يبتغيان رضا النقاد أو الجمهور النخبوي، بل يتوجهان لشريحة معينة من خارج كل تلك التصنيفات، جمهور لا يبتغي عملاً ذا معنى وهدف عميق، ولا تعنيه رسالة العمل أو الدروس والعبر المستفادة، بل جمهور يبحث فقط عن التسلية والمتعة بالطريقة المناسبة له، عبر مشاهدة مسلسل مسلٍ فقط؛ وهذا هو الجمهور المعتاد للفنان الشاب.

وللحق محمد سامي هو أكثر مخرج في هذا الجيل قدرة على قراءة الجمهور، يلعب على المكشوف، يعد الجمهور في كل مرة بأحداث ساخنة وبقفلة (حراقة)، ومع نهاية كل حلقة يقلب تماماً الموقف الدرامي، ويجعلك متشوقاً لمشاهدة الحلقة التالية.

حيث نجح محمد سامي كمخرج ومؤلف للعمل وسيناريست بمشاركة مهاب طارق في مد خطوط درامية متنوعة وراء كل الشخصيات، وجعلها تتوازي وتتلاقى في تناسق يخدم الحبكة ويزيد من سخونتها حلقة بعد الأخرى دون ملل.


يتهم البعض مسلسل "جعفر العمدة" بأنه دراما على طريقة الأفلام الهندي، لكن وبصراحة ما العيب وما المانع أن أشاهد فيلمًا هندياً ممتعًا، خاصةً وأن صناع العمل لم يدعوا أنهم يقدمون مسلسلاً نخبويًا يناقش قضايا المجتمع وينتظر اجتماع خبراء علم النفس والاجتماع لتقديم أطروحاتهم عنه ؟!

كذلك وُجهت انتقادات حادة للعمل بسبب قضية "تعدد الزوجات"، وأن المسلسل تقليد لمسلسل نور الشريف "عائلة الحاج متولي"، فجعفر هو زوج لأربع نساء يتهافتن عليه ويتشاجرن للتقرّب منه وإرضائه، مع وجود جدول أسبوعي للقائه، إضافة إلى تعرضهن للإهانة والضرب أحياناً.

حيث واجه صنّاع المسلسل تهمة ترويج ثقافة "تعدد الزوجات"، والدعوة لإهدار كرامة المرأة والإساءة إليها، كما انتقد متابعون صمت المجلس القومي للمرأة في مصر عن ذلك وهو الذي يبدي رأيه في كل أشكال الدراما التي تتضمن أي تلميح أو إساءة للمرأة، ويرون أن المسلسل يمثل إهانة للمرأة المصرية، بل يدمر جهود الدولة المصرية في مجال حقوق المرأة.

لكن يتناسى البعض أن تركيبة التمرد التي قدمتها أمينة خليل في الهرشة السابعة وهي المرأة التي ترفض حديث زوجها مع امرأة أخرى على الواتس آب بشكل متواصل وتنفصل عنه لهذا السبب، أو منى زكي التي غامرت بكل شيء وسرقت وزورت كي تتمرد على قوانين الوصاية، أو ريهام حجاج رئيسة النيابة التي استقالت من عملها لتصبح محامية وتطالب بتعديل قوانين الاجهاض، أو روبي التي احتلت منصب حضرة العمدة، لا تلامس ملايين المتفرجات، إما لأنها متفرجة متوافقة مع المنظومة الشرقية الذكورية من الأصل، أو لأنها من طبقات اجتماعية وتعليمية، لا تملك امتيازات العمل كمهندسة أو إعلامية أو صاحبة أعمال. وأن من حق هذه الشريحة من المتفرجات التماهي والتوحد مع بطلة شبيهة بها على الشاشات، تدخل في تحديات وتحقق انتصارات.

في مجتمع مصري وعربي أغلبه ربات بيوت، يمكن قراءة بعض حواديت نساء جعفر العمدة، كبطلات يخضن مغامرات وتحديات ويحققن فيها انتصارات بشكل مبهر وشعبوي ومسلي، تماماً كالبطل الذكر.


الأداء في المسلسل كان جيد جداً من الجميع وأبرز من تألقوا في هذا العمل كانت القديرة هالة صدقي في دور الحاجة صفصف، كذلك النجمة ايمان العاصي التي برعت في تقديم الشخصية الشريرة، وتألقت جوري بكر في دور وداد والذي جسدته ببراعة فائقة وسيظل هذا الدور علامة لن تُنسى في مسيرتها الفنية.

وكانت أيضاً مي كساب من النجمات اللاتي قدمن دوراً مميزاً في العمل وكذلك أحمد داش، فيما كانت زينة في أقل حالتها الفنية، حيث قدمت أداءً باهتاً في الشخصية ولم يكن الدور يناسبها على الاطلاق.

وكذلك لم تقدم منة فضالي أفضل ما لديها في دور الزوجة الثالثة نرجس، وكان أدائها أقل من العادي.

يظهر محمد رمضان بأدائه المتعارف عليه، والانفعلات ذاتها في كل أعماله من دون جديد يُذكر، ومن دون أن يخرج عن القالب الذي وضع به نفسه، ومع ذلك ما زال بعضهم يرى أنّ محمد رمضان لديه طاقة وموهبة لم تُستغل بعد في أدوار أخرى متنوعة غير تلك التي يقدمها، وهو بحاجة إلى فريق عمل ومخرج يجيد إدارة هذه الموهبة أكثر من محمد سامي.


كل هذه النقاط الايجابية والعناصر القوية التي اجتمعت لانجاح هذا العمل من حيث الأداء والقصة والاخراج، لا تمنع وجود عيوب وسلبيات كبيرة في المسلسل بالطبع أبرزها الترويج للبلطجة والعنف وانتشار قانون الغاب وغياب دولة القانون وأخذ الحق باليد، كذلك لديكم مثلاً الحي القاهري العريق (السيدة زينب)؛ حيث تجري الأحداث، من المستحيل أن تلمح تماثلاً بين الحقيقة في هذا الشارع والدراما على الشاشة.

فمن أهم عيوب و سلبيات المسلسل هو الصورة المغلوطة تماماً التي نقلها المسلسل عن حي السيدة زينب، حيث صورها على أنها منطقة عشوائية في حين أنها حي شعبي عريق، بل قدم صنّاع مسلسل" جعفر العمدة" سكان الحارة الشعبية المصرية، على أنهم من ذوي الملايين التي لا تعد ولا تحصى، وتنفق بلا حساب، ولا يعرف مصادر جنيها الحقيقي، فضلاً عن تعميم التعامل الربوي بين أقرانها، في مخالفة صريحة للصورة الواقعية المأخوذة عن الحارة الشعبية التي تتسم في الغالب بتراجع المستوى المادي والاجتماعي، بل والارتباط الروحي، والتمسك الديني.


قد تكون قصة "جعفر العمدة" مكررة وأحداثها متوقعة؛ فالمسلسل دراما شعبية لا جديد أو ابتكار فيها، لكنّ كثيرين من المتابعين لم يجدوا تفسيراً لشغفهم بمتابعته وانتظاره يومياً، وربما يكون سرّ نجاحه هو نمطيته الشديدة، فالجمهور يريد الاسترخاء العقلي وسط طاحونة الحياة، والمشاهدة لمجرد المشاهدة والتسلية بعيداً من القضايا المعقدة التي يتفاعل معها ويتأثر بها، وترهق نفسيته وعقله. فهو لا يريد حل مشكلات العالم ولا إصلاح الكون فقط يريد المشاهدة، بعيداً من إدعاء المثالية أو التنظير، فهو يشاهدها وهو يعلم أنها مجرد خيال الكاتب وصانعي العمل.

ورغم أن الانتشار والترويج للبطلجة والعنف شيء لا يرضيني تقديمه فنياً، إلا أنني لا يمكنني انكار نجاح المسلسل الطاغي والكبير وسر نجاح المسلسل ومتابعة الجمهور له هي خلطة يجيد صناعتها الثنائي رمضان وسامي، فهما يبحثان عن هوى المشاهد من دون الانشغال بقيمة العمل ورسالته.


مسلسل "جعفر العمدة" ملحمة شعبية مسلية جيدة الصُنع، حدوتة مُسلية مثل الحكايات التي تُحبها ربات البيوت والرجال على المقاهي، والمراهقين المتشوقين لتدفق الأدرينالين في عروقهم.


تقييم الناقدة ★★★★


#جعفر_العمدة

أحدث منشورات

عرض الكل

Comments


bottom of page